تعرف التنمية المستديمة على أنها تنمية تستجيب لحاجات الأجيال الراهنة دون أن تعرض للخطر قدرة الأجيال القادمة على تلبية حاجاتها هي الأخرى.
والتنمية المستديمة مسار معقد يعكس قابلية مجموعة من السكان على تنمية ثروتها باستمرار، وكذلك أنماطها الفكرية ومؤسساتها الاجتماعية، وبالتالي، فهي تمثل بعدا كميا ونوعيا.
يقول أوليفار كودار : إن التنمية المستديمة "قضية تأويل وتداول وحكم معياري من طرف المتعاملين الاجتماعيين، وليست فرضا تكنوقراطيا لمعايير ومؤشرات يفترض أنها تعكس معارف علم وضعي".
يحدد البعد الاقتصادي للتنمية المستديمة الانعكاسات الراهنة والمقبلة للاقتصاد على البيئة . إنه يطرح مسألة اختيار وتمويل وتحسين التقنيات الصناعية في مجال توظيف الموارد الطبيعية.
وتمنح التنمية المستديمة، باعتبارها قائمة على التآزر بين الإنسان والبيئة، الأفضلية للتكنولوجيات والمعارف والقيم التي تضع في الأولية الديمومة الكبيرة. وتدافع عن عملية تطوير التنمية الاقتصادية، التي تأخذ في حسابها على المدى البعيد التوازنات البيئية الأساسية باعتبارها قواعد للحياة البشرية الطبيعية .
كذلك، تتميز التنمية المستديمة ببعدها السياسي، فهي تجعل من النمو وسيلة للتضامن الاجتماعي ولعملية تطوير الخيارات الاقتصادية. ولابد لهذه الخيارات أن تكون قبل كل شيء خيارات عادلة بين الأجيال بمقدار ما هي بين الدول. وستحافظ الأجيال الراهنة، باعتبارها مدفوعة بهمّ الإنصاف، على خيارات النمو التي ترغب فيها الأجيال القادمة. وتمر المصالحة بين البيئة والاقتصاد عن طريق هذه الضرورة المركبة للإنصاف.
وتمثل التنمية المستديمة مشروعا للسلام، باعتبارها قاعدة للحوار بين الدول، ومصالحة بين نماذج التنمية المختلفة. وتدعم التنمية السوسيو- سياسية المستديمة في نهاية المطاف مسؤوليات كل القوى في عملية تطوير الإنتاج وتوسيع الثروات.
وعلى سبيل المثال، تتسم التنمية الزراعية والريفية بالاستدامة عندما تكون سليمة من الناحية الايكولوجية وقابلة للتطبيق من الناحية الاقتصادية وعادلة من الناحية الاجتماعية وملائمة من الناحية الثقافية، وأن تكون إنسانية تعتمد على نهج علمي شامل. وتعالج التنمية الزراعية والريفية المستدامة بحكم تعريفها قطاعات متعددة لا تشمل الزراعة فحسب، بل المياه والطاقة والصحة والتنوع البيولوجي. وخلال السنوات العشر اللاحقة لمؤتمر ريو، تطور مفهوم هذه التنمية ليشمل الاستدامة الاجتماعية والمؤسسية والاقتصادية فضلا عن الاستدامة البيئية.
ولقد برزت مسألة نقل رأس المال الطبيعي أ والبيئي للأجيال القادمة بقوة منذ بدايات القرن العشرين، حيث أشارت اللجنة الكندية للمحافظة على البيئة إلى هذه المسألة في العام 1915وكان مصطلح البيئة يحيل وبشكل شبه مطلق على الطبيعة.
وفي العام 1950، أصدر الاتحاد الدولي للمحافظة على الطبيعة تقريرا تحت عنوان :"بيان عن المحافظة على الطبيعة عبر العالم"، وقد اعتبر هذا التقرير رائدا في مجال المقاربات الراهنة المتعلقة بالمصالحة بين الاقتصاد والبيئة.
بعد ذلك، تم نشر وثيقة أخرى تدور حول "الإستراتيجية العالمية للمحافظة". وقد ركزت على المحافظة على الطبيعة، لكنها أعطت الأفضلية لرسالة جديدة توضح التغيير الذي طرأ على الأقطاب الداعية للمحافظة : حيث زال التناقض بين المحافظة على الطبيعة وبين التنمية الاقتصادية. فقد تأسس مفهوم التنمية المستديمة انطلاقا من هذا التحليل الذي يقر بوجود علاقة وطيدة توحد الاقتصاد والبيئة. وهكذا فقد تقدم في العام 1970التقرير الأول المنبثق عن نادي روما، والمعنون بـ "كفى من النمو"، بفرضية الحدود البيئية للنمو الاقتصادي، محدثا بذلك نقاشا حادا بين البيئيين أنصار النمو في درجة الصفر وبين دعاة النمو مهما كان الثمن.
ولعل أول محاولة للتوفيق بين النزعتين قد تم بحثها في العام 1972في ستوكهولم، خلال ندوة الأمم المتحدة حول البيئية البشرية، حيث شوهد بالمناسبة انبثاق مفهوم التنمية الملائمة للبيئة، الذي يضع في مقدمة اهتماماته نموذجا للتنمية يحترم البيئة ويولي عناية خاصة بالإدارة الفعالة للموارد الطبيعية، ويجعل التنمية الاقتصادية ملائمة للعدالة الاجتماعية وللحذر البيئي.
وقد وجد مفهوم التنمية الملائمة للبيئة صعوبة كبيرة في فرض نفسه، وباعتباره رائد التنمية المستديمة، ربما يبدو أنه قد ظهر قبل الأوان، أي في مرحلة كان الاهتمام المركز على الانشغالات البيئية يواجه مباشرة المقاربات الاقتصادية المتطرفة، وقد كانت إحالته الواضحة على فكرة الحاجة المختلفة عن فكرة الطلب تزعج بشكل كبير منطق السوق القائم آنذاك.
إن الفعل الاقتصادي يحوى بالضرورة بعدا ايكولوجيا لاستعماله وتبادله وتحويله وتخزينه للموارد الـطبيعية. وبالطبع، فإن النمو الاقتصادي إبان القرنين التاسع عشر والعشرين قد استهلك القدر الوافر للثروات الطبيعية لتفرض مسألة ندرتها وانقراضها.
وقد حاول بعض العلماء خلال القرن العشرين بلورة نظريات تمكن من إعطاء قيمة اقتصادية لمواد وخدمات البيئة وإعادة تطبيع التسيير العادي والصحيح للسوق. ولكن بعدما تبنوا من جديد مبادئ وأسس النظرية الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة، فإن هذه المقاربات ألغت في الواقع كل عملية ضبط لصالح البيئة، إذ بخضوع الطبيعة للقوانين الاقتصادية فإن صرامتها تماثل وتتطابق مع آلية العقلانية . لذا يتحول السوق ليس كمنظم للضوابط الاقتصادية فقط بل الايكولوجية أيضا. وقد شاعت هذه المقاربة الاقتصادية المحضة في هيئات الضبط الاقتصادي الوطنية والدولية. وما زالت تؤثر كثيرا على العدد الكبير من الدول ذات التوجه الليبرالي الصارم .
وابتداء من سبعينات القرن العشرين، عندما أصبحت قضية البيئة موضوع الساعة ومحل اهتمام دولي، برزت عدة مدارس وتيارات فكرية جديدة حاولت أن تدمج الجانب الاقتصادي للبيئة في مقارباتها .
وحسب التيار الايكولوجي، لا يمكن اعتبار كل من النمو والاقتصاد على أنهما أحاديا الجانب، بل يخضعان لعوائق ترتكز على ثلاثة مبادئ أساسية:
أولا، إن قدرات استيعاب الطبيعة محدودة وعلى النظام الاقتصادي أن يأخذها في الحسبان في عملية التحولات.
ثانيا، يجب التنبؤ بالإمكانيات التعويضية بين الموارد القابلة للانقراض والموارد المتجددة.
ثالثا، يجب احترام ظروف إعادة تجديد الموارد الطبيعية المتجددة.
إن المؤشرات الاقتصادية التقليدية، التي تتصف بالصمت تجاه الجوانب الثقافية والاجتماعية، لا تأخذ في الحسبان حالة البيئة. ومع ذلك، يمكن لدخل وطني ينمو بقوة أن يحجب استهلاكا غير محدود للموارد الطبيعية، واستغلالا بشريا لا يحتمل )عمل الأطفال مثلا(. فالنتائج الجيدة لمعدل النمو قد تخفي خــطر استنفاذ الموارد الطبيعية على المدى القصير أ والمتوسط، وكذلك الخطر المرتبط بضعف استثمار الرأسمال البشري الذي قد يهدد النشاط الاقتصادي.
وقد واجه التأويل الليبرالي للمنحنى العكسي حول العلاقة بين الدخل الفردي ومستوى التلوث الكثير من الاعتراضات:
منها، أنه ليس للنمو نتائج ميكانيكية على المحافظة على البيئة. فهذه الأخيرة ناتجة قبل كل شيء عن خيارات سياسية. كذلك، يمر هذا المنحنى على قمة تدل على مستوى عال من انبعاث الملوثات، وفي هذه المرحلة يكون الضرر قد تحقق، لأن بعض الخسائر الايكولوجية لا يمكن تعويضها.
وقد أقام برنامج الأمم المتحدة في بداية التسعينات، مؤشرا متعدد الأبعاد، أطلق عليه اسم مؤشر التنمية البشرية " IDH ". وهذا المؤشر مرتبط بأمل الحياة والمستوى التعليمي وتدخل المواطنين في بلد ما. وهو يسمح، متماشيا والمقارنات الدولية، بإضفاء النسبية على مستوى التنمية، الذي كان يقاس بالنمو الاقتصادي ليس إلا. وتستلهم فكرة التطور البشري من الديمومة القوية فعلاً. وتؤكد بخاصة، على ضرورة حماية وتجديد البيئة من أجل المستقبل، حتى يترك للأجيال اللاحقة ذات الإمكانية التي استفادت منها الأجيال السابقة. ويندرج ذلك ضمن استراتيجية برنامج الأمم المتحدة الذي ينشد خيارا جديدا للتنمية أساسه الإنسان، معتبرا النمو الاقتصادي وسيلة لا غاية، محافظا على الآفاق الممنوحة للأجيال المستقبلية ومراعيا الأنظمة البيئية التي يتوقف عليها وجود كافة الكائنات الحية.
وفي سياق مواز، برز ما يعرف بنظام "المحاسبة الخضراء"، حيث سعت عدد من الدول لدمجه في نظمها المحاسبية .
وفي الأصل، تهدف المحاسبة الوطنية إلى وضع متغيرات معبرة عن حالة وتطور الاقتصاد الوطني لإعطاء أصحاب القرار قاعدة للعمل. فنظام المحاسبة الوطنية هو مجموعة الحسابات التي تقوم بها الدول دوريا لمتابعة تطور اقتصادها، وتعد كل الدول هذه الحسابات على قاعدة منهجية واحدة، وضعها القسم الإحصائي للأمم المتحدة (UNSTAT) بهدف الحصول على مقارنات دولية.بيد أن القيمة الاقتصادية للموارد الطبيعية ودورها في النشاط الاقتصادي ليسا مندمجين في نظام المحاسبة الوطنية، وبخاصة النفقات المكرسة للمحافظة على البيئة (نفقات ذات طابع دفاعي)، مثل تكلفة التجهيزات المضادة للتلوث.
بيد أن بروز مفهوم التنمية المستديمة أدى بالعديد من الدول إلى الرغبة في إدماج البعد الاقتصادي الكلي للبيئة في حقل القرار السياسي، بواسطة محاسبة بيئية خاصة - المحاسبة الخضراء .
وتهدف المقاربة الاقتصادية الكلية للمحاسبة البيئية إلى تهيئة نظام المحاسبة الوطنية بإدماج عدة معطيات داخلية،مثل تكلفة الأضرار الايكولوجية وانخفاض مخزونات الموارد الطبيعية ونفقات تسيير البيئة وقيمة الخدمات البيئية. وهكذا، بمعالجة الموارد الطبيعية وطرق استهلاكها وتدهورها وإعادة تكوينها يمكن تخفيض مبلغ القيمة المضافة بالنسبة لكل إنتاج . ومن ثم حساب الناتج الداخلي الخام مصححاً من اختراقات البيئة. وهذا ما يسمى بالناتج الداخلي الخام الأخضر.
بيد أن أغلب الدول التي أعدت محاسبة بيئية تعتبر من الخطر إنهاء تماسك نظام المحاسبة الوطنية الذي أثبت صلاحيته، في غياب ضمانات حول نتائج فــعلية ومجدية، ذلك لأنه في الظروف الحالية للمعارف، يظهر أنه من الصعب حساب الناتج الداخلي الخام الأخضر.
وتطرح فكرة أخرى تقول بتكملة نظام المحاسبة الوطنية على أساس الحسابات التابعة. وتجمع حسابات البيئة التابعة المعلومات الفيزيائية الصادرة عن الإحصائيات حول حالة البيئة والمصادر الطبيعية ومعلومات متوفرة في الإطار المركزي للمحاسبة الوطنية مثل تكلفة تجديد المحيط أ وتكاليف الأضرار البيئية. وعلى الرغم من ذلك، فان صعوبة التقدير النقدي لبعض المظاهر البيئية، دفع ببعض الدول إلى اقتراح تكملة هذه الخطوة بمعلومات فيزيائية حول حالة وتطور البيئة تكون مبرمجة ضمن إطار محاسباتي.
وفي سياق المقاربات الوطنية، تعتبر البلدان النامية إنجاز مشاريع حماية البيئة الشاملة أ واستعادتها (مثل تقليص غازات الاحتباس الحراري، والحفاظ على التنوع البيولوجي) عملا يستلزم استثمارا تقنيا وعلميا وماليا تعجز عن تحمله.
والواقع أن نمو القانون الدولي للبيئة يتجه إلى زيادة الإجراءات البيئية التي يجب على البلدان النامية الاستجابة إليها. إضافة إلى ذلك، يمنح دعم شروط تمويل مشاريع التنمية المرتبطة بالبيئة وزنا هاما للممولين عند صياغة السياسات البيئية.
ومنذ وقت بعيد، وضعت آليات تمويل التنمية المستديمة موضع المناقشة. وأمام التوزيع غير المتكافئ للثروات في العالم، اقترح عدد من علماء الاقتصاد قوانين وأدوات لتوزيع الموارد المالية العالمية، منها: رسوم دولية، مبادلة حقوق التلويث بتمويل مشاريع إنمائية إلخ.
في هذا الصدد، اقترح جمس ثوبان الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد في العام 1972، فكرة فرض ضريبة على الصفقات المالية الدولية ذات المدى القصير، يمكن اقتطاعها من الصفقات التي تتم بالعملة الصعبة. وفي نظر ثوبان، فان هذه الآلية تقلص من عدم استقرار عمليات الصرف وقد تعيق حركات المضاربة الصرفة. ويمكن توجيه إيرادات هذا الرسم لصالح المساعدة على التنمية. وبمعدل: 0.1 في المائة، يجلب رسم ثوبان حوالي 166مليارا من الدولارات سنوياً، كذلك، اقترحت أفكار أخرى لاستخلاص موارد مالية إضافية، مثل اقتطاع رسم قدره واحد في المائة على تذاكر الطيران.
ويتمثل النقد الرئيس لهذه المقترحات في صعوبة تطبيقها على الصعيد العالمي. حيث تفترض تنسيقا دوليا معقدا لا يمكن تحقيقه.
وخلال مفاوضات الاتفاقية - الإطار حول التغيرات المناخية، اقترحت البرازيل إقامة صندوق يمكن تزويده بأموال المخالفات التي تدفعها الدول المتقدمة التي لا تراعي التزاماتها بتقليص الانبعاثات الحرارية . ويستعمل هذا الصندوق في تمويل المشاريع ذات الاستعمال الأنجع للطاقة في البلدان النامية.
وخلافا لهذا الاقتراح، فضل مفاوض وبرتوكول كيوت وخيار آلية التنمية النظيفة، حيث يمكن للدول أن ترفع حصة حقوقها في التلويث، وفي المقابل تستثمر في التكنولوجيات غير الملوثة لصالح البلدان النامية، التي لا تملك وسائل الحصول عليها. وتقوم الفكرة على منح مرونة أوسع للبلدان المصنعة في تفعيل التزاماتها مع حث البلدان النامية على المساهمة في مجهود حماية البيئة مقابل التعهد لها بمكاسب تكنولوجية ومالية.
بقى أن التنمية المستديمة تعد مفهوما حديثا لم يعالج قانونيا إلا في السنوات القليلة الأخيرة، ويبقى بزوغ القانون الدولي للبيئة كاختصاص قائم بذاته بمثابة تحول حقيقي في تفعيل حماية البيئة على مستوى العالم.
ساحة النقاش