صارت قضايا البيئة تحتل المرتبة الأولى بين اهتمامات الدول والحكومات والأفراد نظراً لانعكاساتها على صحة الإنسان وسلامته، وارتبطت البيئة بكل مفاهيم الحداثة العصرية، وصارت درجة نظافة البيئة أو تلوثها من مقاييس التنمية البشرية التي اعتمدتها الأمم المتحدة لقياس رفاهية الإنسان في دولة ما.

وفي تسعينيات القرن الماضي ظهر مصطلح التنمية المستدامة، وهي التنمية التي تأخذ بالحسبان حماية موارد البيئة ومنع التلوث واستخدام المصادر المتوفرة حالياً بطريقة لا تؤثر على احتياجات الأجيال القادمة، وبدأت الأصوات ترتفع منادية بتحقيق التوازن بين التنمية والبيئة، وتطالب بدمج الاعتبارات البيئية في النشاطات الاقتصادية، والمواءمة بين التنمية وحماية البيئة، وصياغة استراتيجيات وقائية لمشاريع التنمية، ولذلك بدأ العالم يستعد لاستقبال مفهوم جديد في حماية البيئة، وهو ما يعرف بـ (الإنتاج الأنظف)، وهذا المفهوم كغيره من الاستراتيجيات الوقائية الأخرى، مثل: الكفاءة الاقتصادية، والإنتاجية الخضراء، ومنع التلوث، وخفض النفايات، فهو يعتمد أساساً على استبعاد التلوث قبل حدوثه، بدلاً من اللجوء إلى معالجته عند مخرج المنشأة، أي استخدام الأساليب الوقائية، والتركيز على المنتجات والعمليات الإنتاجية.

استراتيجية الإنتاج الأنظف:

إن استراتيجية الإنتاج الأنظف هي في الواقع من أحدث ما توصل إليه الفكر البيئي في العقدين الأخيرين، وتمتد هذه الاستراتيجية من خفض استهلاك الموارد البيئية خفضاً ملموساً، إلى تجنب استخدام مواد خطرة (عالية السمية أو ضارة بالبيئة ( ما أمكن ذلك، ورفع كفاءة تصميم المنتجات وطرق إنتاجها لتحقيق هذين الهدفين، ثم الحد من الانبعاثات والتصريفات والمخلفات أثناء عملية الإنتاج وتدوير المخلفات، حتى تصل إلى حد النظر في منظومة القيم الاجتماعية التي نشأ عنها الطلب على المنتجات أو الخدمات، ومحاولة تعديلها للحد من الاستهلاك الترفي الهادر للموارد والضار بالبيئة.
وحديثاً صار الإنتاج الأنظف من أهم المتطلبات البيئية الواجب تطبيقها لدى القطاعات الاقتصادية في كل مجالاتها الصناعية والزراعية وفي التعدين والخدمات، كما يعد من الخيارات المثالية لإدارة مشكلة التلوث في ظل ارتفاع تكاليف الإدارة البيئية وتصاعد الاهتمام العالمي بالبيئة.

مفهوم الإنتاج الأنظف:

عرَّف برنامج الأمم المتحدة للبيئة الإنتاج الأنظف بأنه التطبيق المستمر لاستراتيجية بيئية وقائية متكاملة على المنتجات والعمليات الإنتاجية والخدمات لزيادة الكفاءة الاقتصادية وتقليل المخاطر على الإنسان والبيئة، ويطبق على النحو التالي:

  • في العمليات الإنتاجية (الصناعية): يشمل الإنتاج الأنظف المحافظة على المواد الخام والطاقة، وإزالة المواد السامة، وتقليل كمية جميع الانبعاثات والنفايات وسميتها قبل مغادرتها العملية.
  • في المنتجات: تركز الاستراتيجية على تقليل التأثيرات الضارة خلال فترة حياة المنتج، التي تبدأ من استخراج المواد الخام اللازمة لإنتاجه وتستمر حتى التخلص النهائي منه.
  • يجري تطبيق الإنتاج الأنظف بوساطة التدريب، والمعارف المتطورة، وتحسين التكنولوجيا، وتغيير السلوك والعادات والمواقف البشرية.

وإدراكاً من المجتمع الدولي أن تحقيق التنمية المستدامة هي مسؤولية جماعية، وأن كل إجراء يتخذ لحماية البيئة العالمية يجب أن يشمل إجراءات لتحسين ممارسات الإنتاج والاستهلاك على نحو قابل للاستدامة، فقد أصدر برنامج الأمم المتحدة للبيئة الإعلان العالمي للإنتاج الأنظف، الذي يدعو إلى تبني ممارسات استهلاكية وإنتاجية تركز على الاستراتيجيات الوقائية المتكاملة، مثل: تقييم الآثار البيئية والدورة الحياتية للمنتج، والعمل على التطوير من خلال تشجيع تغيير الأوليات من استراتيجية معالجة النفايات إلى الوقاية منها، وتطوير الإنتاج ليكون ذا كفاءة بيئية متلائمة مع متطلبات المستهلك.

أهداف الإنتاج الأنظف:

إن الهدف الأشمل لتطبيق استراتيجية الإنتاج الأنظف هو العمل بصورة مشتركة لاتخاذ إجراءات كفيلة بتحقيق تنمية اقتصادية واسعة، تسد احتياجات المجتمع الأساسية، وتربطها بالخطط التنموية ومبادئ المحافظة على البيئة، وهذا يساهم في خفض استنزاف المصادر الطبيعية وزيادة الإنتاج وتوفير في استهلاك الطاقة والمياه وتحسين نوعية المنتج وزيادة القدرة على المنافسة، كما يساهم الإنتاج الأنظف في خفض تكاليف الحماية البيئية الناتجة عن نقل النفايات وتخزينها ومعالجتها، ويحقق مردوداً اقتصادياً من تدويرها وإعادة استخدامها، ويلعب دوراً مهماً في التزام الشركات والمؤسسات بالتشريعات البيئية والمواصفات القانونية، وتحسين بيئة العمل وتحقيق فوائد في مجالات السلامة المهنية والبيئية.
ويُعَدُّ الإنتاج الأنظف في حالات كثيرة بحق وسيلة لتطوير التكنولوجيا، فقد جرى تطوير تكنولوجيا إنتاج أكثر توفيراً للموارد وأقل خطورة على البيئة، ومن أمثلتها:

إنتاج منظفات ومواد لاصقة من أصول نباتية بدلاً من مثيلاتها ذات الأصل النفطي التي تسبب انبعاثات الغازات الدفيئة، وتطوير أصباغ ودهانات جديدة مبنية على الماء بدلاً من المذيبات العضوية، واستخدام مصادر الطاقة البديلة وغيرها.

تطبيقات الإنتاج الأنظف:

لقد حدث انخفاض كبير في معدلات التلوث الصادرة عن قطاعات صناعية مختلفة بعد تطبيق استراتيجيات الإنتاج الأنظف، وحدث هذا الانخفاض نتيجة تدوير النفايات أو جزء منها عند تولدها في مصادرها، وتطوير تكنولوجيا التصنيع والمعدات، وتحسين عمليات التشغيل، والتدبير الجيد، وتداول المواد، وصيانة المعدات، ومراقبة النفايات وتتبعها، والتحكم الآلي، وأن تستبدل بالمواد الخام مواد أخرى تنتج نفايات أقل خطورة أو بكميات أقل، واستخدام أكثر كفاءة للمنتجات الثانوية.

وعموماً فهناك استراتيجيات متعددة لتطبيق الإنتاج الأنظف، وهذا يجري من خلال:

  1. تطوير العملية الإنتاجية بحذف العمليات التي تنتج مواد ضارة بالصحة أو البيئة، وثمة مثال معروف في صناعات منتجات الكلور والصودا الكاوية، إذ يمكن تفادي تصريفات الزئبق نحو البيئة، بأن تستخدم المصانع الجديدة طريقة الخلية الغشائية بدلاً من طريقة الخلية الزئبقية، التي كانت تستعمل في الماضي.
  2. استبدال المواد، إذ توجد في الصناعة مجالات متعددة لأن تستبدل بالمواد السامة مواد أخرى أقل ضرراً، وتشمل عمليات الاستبدال لأسباب صحية استبدال مذيبات ومركبات معينة يمكن أن تسبب السرطان واستخدام مواد أخرى غير مسرطنة بدلاً منها، وكذلك تشمل مواد طلاء ودهانات حاوية على الرصاص واستخدام مواد أخرى آمنة، وعدم استخدام مواد معينة كألياف الأسبستوس (الألياف الزجاجية) وما هو على شاكلتها، واستخدام المنظفات المائية بدلاً من المنظفات المبنية على مذيبات عضوية، واستعمال بدائل للمركبات المستنفدة لطبقة الأوزون.
  3. تطوير المعدات أو استبدالها، إذ يمكن مقاومة تكوين الملوثات بتطوير الأجهزة أو استبدالها، وينتج عن هذا تكنولوجيا جديدة ذات كفاءة عالية في الإنتاج وذات تصريف أقل للملوثات البيئية.
  4. إدارة داخلية جيدة، إذ تعمل الإدارة الجيدة على تشغيل أنظمة الإنتاج بأفضل الوسائل من أجل ممارسات وإجراءات داخلية معينة، مثل: عزل الفضلات، ومنع تسرب المواد، وجدولة الإنتاج، والنظافة الجيدة.
  5. تدوير النفايات، وتهدف هذه العملية إلى خفض الملوثات، وذلك عن طريق إعادة استخدامها في العملية الصناعية الأصلية، أو في صناعة أخرى كمادة خام، أو لمعالجة نفايات أخرى، أو بقصد توفير طاقة منها.


إن تطبيق الإنتاج الأنظف يتطلب معرفة تامة بطريقة الإنتاج والتكنولوجيا المستخدمة وتقييم استخداماتها، والملوثات الناتجة عن العمليات الإنتاجية، لتشخيص كل المشاكل التي يمكن حدوثها والقيام بمعالجتها، ويعتمد نجاح خطط التنمية المستدامة اعتماداً رئيسياً على استخدام الإدارة البيئية السليمة والاستراتيجيات الوقائية، مثل: منع التلوث، وخفض النفايات، والإنتاج الأنظف، وتقييم الآثار البيئية للمشاريع التنموية، وهذا يتطلب تعاون جميع قطاعات المجتمع، وهي: الحكومة، والصناعة، ونقابات العمال، والجامعات، والمنظمات غير الحكومية، والأفراد، للتحول إلى الاقتصاد البيئي، وذلك بالحد من الاستهلاك المفرط، وتحقيق فاعلية البيئة، وتعزيز القدرة على الإبداع التكنولوجي النظيف، والاعتماد على التكنولوجيا البديلة، وتحديث الصناعة التقليدية بما يلائم الاهتمام البيئي، وتبني الحسابات البيئية، مثل: كلفة التلوث، والإجراءات الوقائية.

وقد أثبتت التجارب أن التكنولوجيا النظيفة ذات جدوى اقتصادية في تجنب الأضرار التي تلحق بالصحة والبيئة، وأنها تدر ربحاً أوفر، وتستخدم الموارد استخداماً أكفأ، كما أنها ذات إنتاج أعلى.

اقرأ أيضاً:

صناعة تدوير النفايات

المصدر: جريدة النور/ وهدان وهدان
yomgedid

بوابة "يوم جديد"

  • Currently 170/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
57 تصويتات / 6968 مشاهدة

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

معبد الأقصر