ثمة مصطلحات و مفاهيم ما إن يتلقفها الناس والإعلام حتى تنتشر كالنار في الهشيم، و خاصة تلك المتعلقة بعلم النفس؛ ففي عصرنا نادراً ما نجد شخصاً لا يستخدم، أو على الأقل لا يعرف مصطلح "العقدة النفسية" مثلاً.
ومنذ فترة ليست بعيدة سار على الألسن تعبير "التفكير الإيجابي" الذي صاحب دخول ممارسة مشكوك في جدواها، على الأقل كما تطبق في بلادنا، هي البرمجة اللغوية العصبية، التي نبتت كفطر في ليلة رعدية وصارت كالصحافة عمل من لا عمل له.
ويجري الآن تقديس التفكير الإيجابي في حضارتنا المعاصرة، بحيث أن توجيه الانتقاد له ولو كان بسيطاً أمر لا يغتفر. والعديد من الناس يحلفون (برأس) التفكير الإيجابي، والقليل منهم قدم له هذا التفكير يد المساعدة. وبصراحة، هو ليس أداة ناجحة وقد يكون ضارا في بعض الحالات. وهناك الكثير من الطرق تقدم فوائد أفضل بكثير مما يُزعم أن التفكير الإيجابي يقدمها.
وقد تكون العبارة التي خير ما تمثل التفكير الإيجابي هي "عندما تعطيك الحياة ليمونة، اصنع ليموناده". يبدو ذلك شديد البديهية بحيث أننا لا نسائل الحكمة من وراء المثل. و لكن لن يلزم الكثير من التنقيب لكشف الشقوق في هذا الاستنتاج.
أولاً، هل قدمت لك الحياة حقاً ليمونة، أم أن تلك كانت استجابتك الأولية دون تفكير فحسب؟ ثانياً، هل الليمونة شيء سيء فعلاً أو شيء لا تريده ولكن بما أنه لديك فإنك ستأتي بـ"الديب من ديله" بصنع الليمونادة؟
معظمنا يميل لاستخدام تعبير "سيء" من ثلاث إلى عشر أضعاف استخدامه لتعبير "جيد". وعندما نقول أن أمراً ما سيئا فإن التحيز يغمر تفكيرنا بحيث أننا سنختبر السوء فيه. وهنا نحتاج للتفكير الإيجابي. لقد أُعطي لنا شيئا سيئا (ليمونة حقيقية) ومن الأفضل لنا أن ُنخرج شيئا من هذا الوضع "السيئ". هذا مبتذل وممل.
والآن ليعد كل منا إلى ماضيه، هل يمكننا أن نتذكر أمثلة عن شيء فكرنا في البداية أنه سيء ثم تحول إلى شيء ليس سيئا تماما أو ربما شيئا جيدا؟ مثل أن تكون تأخرت عن موعد القطار واضطررت للانتظار نحو ساعة أو أكثر للرحلة التالية فكان شعورا سيئاً ما عدا أن جارك قد تأخر أيضا وبدأت حديثاً وتطورت صداقة جميلة منذ ذلك الوقت.
ستجد العديد من الأمثلة في حياتك بعضها ذو أهمية كالعمل الذي أردته باستماتة لكنك لم تحظ به، لتجد عملا أفضل بكثير يأتي إليك لم تكن لتقبله لولا الرفض الأول.
لنفترض فرضية ثورية، إنه ومهما حدث لك فلن تلصق لصاقة سيئة على ذلك. مهما حدث: طرد من العمل، فاتورة هاتف رهيبة، طلب طلاق من زوجتك، معرفتك أن ابنك يتعاطى المخدرات، أو أشياء من هذا القبيل. كل ذلك لا يبدو مسليا أو مضحكاً بالتأكيد، بل أمور مخيفة وقاسية. هل من المحتمل، فقط من المحتمل، أنك وُضعت تحت إشراط أن تفكر بهذه الأمور بوصفها تراجيديا رهيبة وبالتالي تختبرها على أنها كذلك؟
بعض الناس يزدهرون حين يواجهون صروف الدهر، بينما يتحطم آخرون. والعديد ممن يتقدمون بانتصار لا يدمغون ما يمرون به بالسيئ و يندبون حظهم. هم ببساطة يتعاملون معه كشيء معطى، حالهم كحال المهندس المدني الذي يقوم بمسح طبوغرافي لكي يشق طريقاً. هنا، وجود المستنقع ليس أمراً سيئاً. هو شيء يتعين لحظه في خطة التشييد.
إذا لم تدمغ شيئاً بالسوء، فلن تحتاج للتفكير الإيجابي. و كل الشدة التي تصاحب حدوث أمر سيء وتجربته بوصفه كذلك والتفكير بكيفية استخراج الليمونادة منه، ستتبخر ببساطة.
لنلاحظ الحصاة في حذاء التفكير الإيجابي. "هذا أمر سيء، سيء حقاً. إنه ليمونه. ولكن بطريقة ما سأستخرج منها بعض الليمونادة، وعند ذاك لن يكون الأمر شديد السوء".
في الأول تفكر في سوء الأمر، ثم تفكر بأنك بشكل ما ستجعله أقل سوءا. وهكذا تبدأ بالتجديف ضد تيارات المياه القوية وتخادع نفسك. بعض الناس ينجحون، وأكثرهم يخفق. وهؤلاء يتحطمون لأن النموذج الذي يحاولون جاهدين بناءه، يتهدم عليهم. ولهذا يمكن للتفكير الإيجابي أن يكون مؤذياً.
هل يمكنك بالفعل أن تشق طريقك في الحياة دون أن تسم ما يحدث لك بأنه جيد أو سيئ؟ يمكنك بالتأكيد. يجب أن تدرب نفسك على ذلك، فقد وُضعتَ تحت إشراط أن تفكر بالأشياء على أنها جيدة أو سيئة. يمكنك أن تزيل الإشراط عن نفسك. الأمر ليس سهلاً و لا سريعاً، لكنه ممكن.
لنفترض أن ساقك انكسرت. هناك الكثير لتفعله كالذهاب إلى جراح عظمية لتجبير الكسر، ومن ثم العلاج الفيزيائي بعد اندماله. و لكن كل ما عدا ذلك نوافل لا مبرر لها: "لم حصل ذلك معي؟ الأمور السيئة دوما تعترض سبيلي. يا لشدة ألمي" ليس عليك أن تحمل كل هذا العبء، والسبب الوحيد في أنك تحمله هو أنه لم يخبرك أحد أنه ليس عليك أن تحمله.
إذن، أقول لكم لا تحملوا عبئا عديم الجدوى، لا تدمغوا ما يحدث لكم دمغة "سيء". عندها لن تحتاجوا للتفكير الإيجابي، والكثير من الكرب النفسي سيزول من حياتكم.
ساحة النقاش