شكلت انطلاقة الصحافة على الشبكة العنكبوتية "الانترنت" ظاهرة إعلامية جديدة، مرتبطة بثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فأصبح المشهد الإعلامي أقرب لأن يكون ملكاً للجميع، وفي متناول الجميع، بعد أن كان مقتصراً على فئة محدودة من الناس، وصار المحتوى الإعلامي أكثر انتشاراً وسرعة في الوصول إلى أكبر عدد من القراء، وبذلك تكون الصحافة الإلكترونية قد أنارت آفاقاً عديدة، وفتحت أبواباً مغلقة، وأصبحت أسهل وأقرب للمواطن؛ مما كان له عميق الأثر سواء على صناع القرار من ناحية، أو من ناحية تشكيل الرأي العام، فلم يعد الرقيب حكومياً كما كان بالأمس بل الرقيب هو أخلاقيات العمل الصحفي والرسالة الإعلامية الموضوعية.
ولكن في الآونة الأخيرة طرحت عدة تساؤلات حول مستقبل الصحافة المطبوعة والتحديات التي تواجهها والحاجة إلى تطوير تقنيات وأساليب جديدة في ظل استمرار الانخفاض على طلبها مؤخراً تزامناً مع ظاهرة انتشار ورواج الصحف الالكترونية، حيث أظهرت النشاطات والندوات التي ناقشت هذا الموضوع على الساحة العربية خلال العامين الماضين مدى الاهتمام بمستقبل الصحافة الورقية في ظل التطور المذهل لشبكة الإنترنت، وذلك بالرغم من أن عدد مستخدمي الإنترنت في الدول العربية منخفض نسبياً حيث يصل إلى حوالي 7.5% من إجمالي عدد السكان في الشرق الأوسط في حين يصل في بعض المناطق مثل أمريكا الشمالية إلى 67.4%، وفي أوروبا إلى 35.5% طبقاً لأحدث الإحصائيات.
وحسب بعض الإحصائيات فإن نسبة مشاهدة المواطنين في العالم للصحافة الإلكترونية تقارب الـ 60%، فما عاد المواطن ينتظر الصحيفة المكتوبة ليوم غد؛ فهو يحتاج أن يعرف الأخبار أينما كان وفي أي وقت ومجاني، فالمستفيد من الصحافة الإلكترونية هم الجميع.
وفي مقارنة سريعة بين الصحافة الورقية والإليكترونية نجد أن:
- صفة التوفر: تعطي الصحافة الإلكترونية صفة "التوفر" فتجد المادة التي تحتاج في أي وقت رغبت وفي أي مكان كنت؛ فالصحفي أو المواطن يمكنه أن يحصل على أية معلومة نشرتها مؤسسة الصحيفة الإلكترونية دون سؤالها أو أخذ الإذن منها، حيث أرشيف الصحافة الإلكترونية متوفر دوماً للجميع دون قيود، والعكس صحيح بالنسبة للصحافة الورقية التي لا تتيح فرصة الحصول عليها إلا لمن اشترى النسخة الورقية الخاصة بيوم معين، أما باقي نسخ الأرشيف فهي غير متاحة إلا بإذن من الجريدة.
- بالنسبة لاستطلاعات الرأي: التي هي جزء حي من حرية التعبير، فاستطلاعات الرأي التي تنشرها الصحافة الورقية مثلاً تصل إلى عدد محدود من الناس، بالاعتماد على نسبة بيع الصحيفة في مجتمع معين، فيما تجد أن استطلاع رأي على الإنترنت يشارك به عشرات الآلاف دون أن يتم التعرف على هوية صاحب المشاركة، فيبدي رأيه بحرية تامة بعيدة كل البعد عن أي قيد.
- سرعة الاستجابة للمعلومة: كما أن سرعة استجابة القارئ أو المتلقي للمعلومة تعرب عن مدى اطمئنانه ومدى راحته وسعة وعاء الصحافة الإلكترونية؛ فيعرب عن رأيه ويكتب تعليقه وينشر هذا التعليق بسرعة كبيرة، فتبني علاقات قوية بين أفراد المجتمع، سواء بين الصحافي والمواطن، أو بين المواطن والآخر، بإعادة التعليق أو النقد، فيما لا يستطيع القارئ والمواطن التعليق على الصحافة الورقية إلا عن طريق مراسلات بريدية لا تتيح سرعة الاستجابة من إدارة التحرير والقائمين على الجريدة.
- قضية اختلاف الرأي: إن عدم توافق وجهة نظر المتابع أو القارئ مع المحلل أو الكاتب أو الصحفي على المواقع الإلكترونية، لا يفسد للود قضية، بل إن تقبل المنطق المعروض، إذا قدم صاحب الرأي عرضاً منطقياً للدفاع عن رأيه، وتحليله لا يعني بالضرورة تقبل الرأي والاقتناع به وليس مجبراً، وربما تكون هذه الظاهرة هي أحد أجل مظاهر التحول وقبول الرأي والتعبير، فالديمقراطية التي يتيحها الانترنت، في اختلاف في الآراء والتوجهات والأهداف، جعلها تتصدر اهتمامات الكاتب والقارئ، طالما تمكن كل واحد منهما من عرض وجهات نظره والدعوة إليها من خلال الحديث عنها ومناقشتها دون الإضرار بالطرف الآخر.
- المشاركة في صنع الخبر: الفرد العادي في الصحافة الإلكترونية يشارك كثيراً في صناعة الخبر الذي يتحدث عن مجتمعه وقضايا حياته اليومية، إضافة أو تعديلاً، وبذلك يتعزز لديه ولدى مجتمعه مفهوم المشاركة والمتابعة، وهنا لا بد من التأكيد على أن الصحافة الإلكترونية شاركت ومنذ نشأتها بتعزيز ثقافة المجتمع وتزايد الشريحة المثقفة والشريحة الكاتبة.
- حق الكتابة والنشر للجميع: قبل نشوء الصحافة الإلكترونية، اقتصرت المساحة المتوفرة لنشر المقالات والكتابات على شريحة معينة من المجتمع، وعلى نوعية معينة، فتواجدت صحف يومية في الدولة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، حددت مساحة معينة لهم، فيما لا يستطيع أي كان، شابا أو موهوبا أو امرأة أو صحفي في بداية حياته الصحفية أن ينشر، أو يسأل مؤسسة الجريدة أو الصحيفة أن تنشر له، وعليه قبول هذا الوضع بكل الأحوال، فيما أعطت الصحافة الإلكترونية تلك المساحة الشاسعة للأقلام الشابة وغير المتمرسة، فلا قيود عليه أن يكتب أو يستنكر أو يعلق على مقالة أو خبر، أو قضية أو أي مفهوم سياسي، وتنشر له بعد وقت قليل من التنقيح، فيما لا يعطيها رئيس تحرير الصحيفة المكتوبة حظها في القراءة ليعود ويقول للصحفي: هذه لن تنشر لأنها ستهدم مستقبل الصحيفة، أو هذا التحقيق سيمنع الشركة المستهدفة من نشر الإعلانات لدينا، فتضيع الحقوق بين الإعلام والإعلان.
- سهولة التواصل: إن ظهور وانتشار الانترنت والصحافة المكتوبة فتحت أمام كافة الشعوب إمكانات ضخمة لا يمكن التكهن بتأثيرها وإلى أين ستصل؛ فالكتابة الرقمية لعبت دور في سهولة التواصل بين القارئ والكاتب، وتبادل التعليقات، وخلقت أسرع الطرق التي أوصلت الصحفي أو الكاتب إلى مختلف شرائح وأطياف الجمهور، بل منحت الكاتب حقوقه الكاملة في ممارسة البوح والفضفضة والتعبير عن القضايا الهامة في مجتمعه وإيصالها إلى كافة شرائح المجتمع.
وإلى ذلك تعاني الصحف الكبرى من مشكلات تراجع التوزيع في العالم منذ سنوات، وهو أمر جرى نقاشه كثيراً، سواء في الصحف نفسها، أو من قبل المتخصصين في الإعلام. وهناك الكثير من التقديرات حول توجه العالم خلال السنوات القادمة، ليس إلى انخفاض قراء الصحف الورقية، بل إلى اختفاء كامل للصحيفة الورقية التي نعرفها اليوم من العالم. وهناك الكثيرون الذين يحاولون تجنب هذا المصير، كما هناك العديد من المشروعات البحثية التي تعمل على إيجاد بدائل عن الصحافة الورقية، لأن العالم يذهب في السنوات القادمة في هذا الاتجاه، حسب تقديرات أغلبية العاملين في مجال التقنيات، وفي مجال الصحافة.
وفي هذا الإطار تعمل الشركات التقنية على مشاريع «توزيع صحف بلا ورق»، وهناك اليوم الكثير من شاشات وبرامج العرض التي تسعى أن تحل محل الصحف اليومية، وهي تحصد المزيد من النجاح يوماً بعد يوم.
ولا شك أن مشاريع صحافة بلا أوراق، كانت الريادة فيها من قبل المؤسسات الصحفية ذاتها عبر المواقع الإلكترونية، حيث بات لكل صحيفة موقعها، بصرف النظر عن مكانة الصحيفة، وبات الوصول إلى أي صحيفة يحتاج إلى ضغطة صغيرة على فأرة جهاز الكمبيوتر. وهذا ما أحدث ويحدث ثورة هائلة في مفاهيم ومعايير العمل الصحفي، حيث باتت مواقع مثل "فيس بوك" و"تويتر" وغيرها مصدراً مهماً للأخبار رغم أن هذا ليس دورها الرئيسي.
وقد تجاوز الإنترنت مرحلة الضغوط على الصحف إلى مرحلة بات من الضروري على الصحف ذاتها أن تتلاءم فيها مع التحولات الهائلة التي حدثت في السنوات الأخيرة في عالم التقنيات والاتصالات؛ فمن المعروف أن مصاريف كبيرة كانت وما زالت تتكبدها الصحف الكبرى عبر نسخها الورقية، وهي مصروفات بات من الممكن تجنبها، حيث يمكن أن تكون هذه التوفيرات هائلة، إذا عرفنا أن صحفاً كبرى، مثل «نيويورك تايمز»، أو «وول ستريت جورنال»، كانت تستهلك نحو 200 ألف طن من الورق سنوياً واليوم سعر طن الورق في ازدياد، وإذا تمت إضافة أسعار الطبع والشحن إلى أسعار الورق، فيمكننا أن نتصور أي مبلغ من المال يمكن توفيره باختراع تقنية تجعل الصحافة تستغني عن الورق والشحن، وتستخدم وسائل النقل الإلكترونية لإيصال صحفها إلى القراء.
وهناك تحد آخر تفرضه شبكة الإنترنت على الصحافة الورقية وعلى مواقعها الإلكترونية، وهو ازدياد عدد الناس الذين يودون الحلول محل الصحفيين والصحف من خلال مواقعهم الإلكترونية، ومواقع البلوجات "المدونات" Blogs أكثر من أن تحصى، ويبدو أن هناك رغبة عند أعداد لا تحصى من البشر في مشاركة الآخرين معلوماتهم الشخصية التي حصلوا عليها بشكل أو بآخر، والشبكة أفضل وسيلة لإخبار ومشاركة الآخرين هذه المعلومات.
وهناك اتجاهاً عاماً يزداد دوماً لاعتبار المعلومات سلعة مجانية في متناول الجميع، وهو ما يستنتج البعض منه أنه بإمكان الجميع أن يصبحوا صحفيين، وتضع التطورات التقنية الإمكانات في متناول الجميع وتعطيهم القدرة على جمع وقائع وصور وآراء، وتعطيهم الإمكانية لنشرها على نطاق واسع، وإعادة نشر ما يعجب أحدهم بعد أن ينقله عن مواقع أخرى أو يقرصنه، وأي مقال ينشر في صحيفة، تجد أنه سرعان ما يتم نسخه في العديد من المواقع الإلكترونية.
المواطن الصحفي:
فإذا كانت الصحافة طوال ما يزيد على قرن ونصف من الزمان وهي تتربع على عرش وسائل الإعلام، فإنها متجهة الآن نحو الانحدار التدريجي وربما السريع نحو القاعدة تاركة القمة لجيل جديد من الإعلام الشبكي والتقني الحديث، حيث إن تحول المواطن إلى صحفي أو ما يطلق عليه (المواطن الصحفي ) عبر الجيل الجديد من الإعلام التقني من خلال دمج أكثر من وسيلة إعلامية في وسيلة واحدة فمدوناته تحتوي على مقاطع فيديو ولقطات من صور فوتوغرافية وكلمات نصية تتفاعل مع جمهور من شتى بقاع العالم لنتحول إلي حقبة جديدة من الإعلام التفاعلي المجتمعي.
إن التقنيات الحديثة في الإعلام هي مرحلة تحول في الوسائل الإعلامية يجب علينا أن نستعد ليس لاستقبالها وحسب وإنما المشاركة في إنتاجها، وتهيئة جيل جديد من الإعلاميين القادرين على التعامل مع هذه الوسائل بحرفية ومفهوم جديد.
ساحة النقاش