ولم تنشأ الكتابة في مجتمعات بدوية، إنما نشأت في المدن؛ لأن حياة المدن صعبة ومعقدة، أما الحياة البدوية فهي سهلة وبسيطة؛ فالبدو يسجلون تاريخهم وأفكارهم عن طريق الاعتماد علي الحفظ والنقل الشفهي، وكانت التعاملات بينهم بسيطة لا تحتاج إلى تسجيل. ومما ساعد على هذا قلة أعدادهم في تجمعاتهم وعدم استقرارهم، وارتحالهم.
الكتابة المسمارية:
تحولت الصور بعد فترة من الزمان إلى أشكال طولية تنتهي برأس مثلث، تشبه المسامير، فظهرت بذلك الكتابة المسمارية في العراق.
ولقد اتخذوا هذه الأشكال عندما وجدوا أن الصور لا تعبر بدقة عما يريدون؛ فهي وإن كانت تعبر عن الأشياء المحسوسة، إلا أنها لا تعبر عن الأشياء المعنوية: كالسعادة أو الحزن مثلا، كما لا تعبر عن الزمن: كاليوم أو الأمس.
كما وجدوا أن استخدام الصور يتطلب مساحة مكانية كبيرة، ووقتًا طويلا في رسمها؛ وبذلك سهَّلت الكتابة المسمارية كتابة الاتفاقيات التجارية والمعاهدات السياسية.
مادة الكتابة:
كان السومريون يكتبون على ألواح من الطين الطري بواسطة أقلام رفيعة من الخشب، وكانوا يحتفظون بهذه الألواح الطينية في أماكن خاصة داخل القصور بعد أن يجففوها في الشمس، وأحيانًا كانوا يقومون بحرقها في النار؛حتى تبقى سليمة لزمن أطول.
الكتابة عند البابليين:
ورث البابليون حضارة السومريين فاستخدموا الكتابة المسمارية التي انتقلت من السومريين إليهم، إلا أن الذي ميز البابليين أنهم أحبوا الكتابة، وكتبوا آلاف الألواح الطينية في شتى الموضوعات.
ولم يكن الطين هو المادة الوحيدة التي استخدموها للكتابة؛ فلقد كتبوا أيضًا علي الرَّق - جلد صغار البقر-، كما كتبوا على الحجارة.
الكتابة في مصر القديمة:
اهتم المصريون بالكتابة اهتمامًا كبيرًا لدرجة أن أحد الحكماء أوصى ابنه، فقال له: "أحب الكتاب مثلما تحب أمك؛ لأنه لا يوجد ما هو أثمن من الكتاب".
ولقد نشأت الكتابة عند المصريين بعد نشأتها عند السومريين، فاستخدم المصريون الكتابة الهيروغليفية. وهي كلمة يونانية تعني: (النقش المقدس)، وسميت بذلك لأنها كانت مستخدمة بصورة كبيرة بين كهنة المعابد.
تطوير الهيروغليفية:
كانت الهيروغليفية تحوي صورًا تمثل الأشخاص والحيوانات والزواحف، لذلك ابتكر المصريون طريقة مختصرة سميت (الهيراطيقية)؛ حيث اختصروا الصور والأشكال إلى خمسة وأربعين رمزًا، ثم إلى أربعة وعشرين رمزًا. ولقد فعلوا هذا حتى يستطيعوا كتابة الرسائل الخاصة بالتجارة والاتفاقيات في سرعة وسهولة. ومع هذا وجدت طريقة ثالثة للكتابة وهي( الديموطيقية)، وهي أكثر اختصارًا من الهيراطيقية، وكانت الطرق الثلاث تعتمد على الصور وليس على الحروف التي عرفت فيما بعد.
الكنعانيون والحروف:
عاش الكنعانيون قديمًا في فلسطين، واستطاعوا أن يبتكروا نظامًا للحروف يحتوي على نحو اثنتين وثلاثين علامة مشتقة من الهيروغليفية، وانتقلت هذه الحروف من الكنعانيين إلى اليونانيين، ثم انتشرت في البلاد المحيطة باليونان.
الفينيقيون وتطور الكتابة:
وهناك شعب آخر كان له الفضل في تحويل الأشكال إلى حروف، إنهم الفينيقيون، الذين عاشوا على سواحل الشام. وكانوا شعبًا نشيطًا يحب الحركة والسفر، ويعمل أفراده بالتجارة. ولقد وضعوا رموزًا أسهل وأفضل من الأشكال التي استخدمت في الكتابة المسمارية والهيروغليفية، فابتكروا اثنين وعشرين رمزًا للتعبير عن الأصوات، وليس عن الأشكال، ثم نشروها في البلاد الواقعة على البحر المتوسط، وهي المناطق التي كانوا يتاجرون فيها.
الكتابة عند الهنود:
كانت الكتابة تتألف عند الهنود القدماء من خمسمائة وعشرين إشارة، ولم يتمكن أحد من الذين أتوا من بعدهم من قراءة معنى النصوص التي كتبت بها أو فهم معانيها. فلقد كانت هذه الكتابة غامضة لا يعرفها كثير من الهنود؛ فلم يكن يستخدمها سوى الكهنة في معابدهم؛ ولذلك اختفت من حياة الهنود. ثم ظهرت بعد ذلك الحروف الهندية التي استخدمت فيما بعد.
الكتابة عند الصينيين:
كان الصينيون يستخدمون الكتابة بالعُقَد- التي ذكرناها من قبل- ثم بدءوا يكتبون عن طريق رسم الصور، ثم اخترعوا الحروف. وتتميز الكتابة الصينية بأنها ليست أفقية، بل يكتبون بطريقة رأسية، تبدأ من أعلى إلى أسفل.
ويتضح مما سبق أن الكتابة نشأت في حضارات عديدة تختلف فيما بينها في طريقة الكتابة والحروف المستخدمة.
الكتابة عند العرب:
تميز الخط العربي- إلى جانب أنه وسيلة للكتابة - بأنه استخدم في تدوين القرآن، كما استخدم كوسيلة فنية للرسم والتزيين؛ فهناك بعض الخطوط العربية التي تفوق كثيرًا من الأعمال الفنية في الجمال والتناسق، وتزين كثيرًا من المباني والمساجد.
ولقد تطور الخط العربي عن الخط النبطي الذي ينسب إلى النبط؛ وهم جماعة من أصل عربي كانوا يسكنون شمال شبه الجزيرة العربية، وابتكروا لأنفسهم طريقة في الكتابة استمرت مع العرب بعد زوال مملكة النبط، ولقد عرف العرب الخط النبطي عن طريق احتكاكهم بالنبط؛ حيث كان العرب يمرون بأرضهم للتجارة، ثم طوروا هذا الخط حتى انتهى إلى الخط العربي المعروف لنا، والذي استخدم في تدوين القرآن الكريم، بعد أن كان استخدامه قاصرًا على المعاهدات السياسية والاتفاقيات التجارية.
كما عرف العرب الخط الحِمْيَري أو المُسْنَد (الذي كان ينسب إلى الحميريين الذين عاشوا في اليمن)، إلا أن هذا الخط اختفى تدريجيًا بعد الإسلام، ولم يبق سوى الخط الذي نشأ عن الخط النبطي.
تطور الخط العربي:
بعد ظهور الإسلام وانتشاره ظهر التطور الأول للخط العربي، والذي تمثل في ضبط الحروف، حتى لا يختلط المرفوع بالمنصوب والمجرور، ولقد قام بهذه المهمة أبو الأسود الدؤلي، فاستعان بعلامات تميز بين الضمة والفتحة والكسرة، وكان يحضر حبرًا يخالف لون الحبر الذي كتب به الكلام، فإذا جاء موضع الكسرة ينقط نقطة تحت آخر الحرف، أما في حالة الضمة فكان يضع النقطة إلى جانب الحرف، وجعل الفتحة نقطة فوق الحرف، وهكذا عرف تشكيل الحرف بالتنقيط.
النقط والحروف:
كان العرب يعتبرون وضع نقط للحروف المتشابهة- كالباء والتاء والثاء- عيبًا في ذكاء القارئ، وشكًا في فطنته؛ فعندما أمر عثمان بن عفان- رضي الله عنه- بكتابة المصحف كانت الحروف بغير نقط، إلا أن الحروف المتشابهة كالدال والذال، أو العين والغين؛ أصبحت موضع التباس عند من أسلم من غير العرب، فوضع نصر بن عاصم- وقيل: يحي بن يعمر- النقط للحروف لتسهيل القراءة. وكان هذا التطور الثاني.
وجاء الخليل بن أحمد الفراهيدي بالتطور الثالث والحاسم؛ فوضع علامات بدلا من النقط التي وضعها أبو الأسود الدؤلي للتشكيل؛ فكانت العلامة فوق الحرف تدل على الفتح، والعلامة أسفل الحرف تدل على الكسر، ورأس حرف واو فوق الحرف يدل على الضم. وهذه العلامات هي: الفتحة، والكسرة، والضمة. ثم أضاف الفراهيدي علامات أخرى، منها: السكون، والمدة، وعلامة الصلة لألف الوصل، وهمزة الوصل، وهمزة القطع، والشدة.
ساحة النقاش