"داخل منزلي في بريطانيا أعيش وطني الذي أتمنى عودتي إليه، ففي بيتي كل شيء من رائحة الوطن، ترتيب أثاثي، والصور القرآنية على الحوائط، والبخور الذي أبخر به يوميًّا حجرات بيتي". بهذه الكلمات الرقيقة عبرت الباحثة السعودية الدكتورة "حياة سندي" المتخصصة في علوم التقنيات الحيوية عن مدى اشتياقها للعودة إلى أرض الوطن. حياة التي ولدت في مكة، أمضت ما يقرب من 13 عامًا في بريطانيا، تعمل وتدرس حتى حصلت على درجة الدكتوراة في أدوات القياس الكهرومغناطيسية والصوتية من جامعة كامبردج العريقة، وقد استطاعت أن تتوصل إلى عدد من الاختراعات العلمية الهامة جعلتها تتبوأ مكانة علمية عالمية رفيعة، دفعت هذه المكانة أمريكا إلى دعوتها ضمن وفد ضم 15 من أفضل العلماء في العالم؛ لاستشراف اتجاهات ومستقبل العلوم، كما دعتها جامعة بركلي بمدينة كاليفورنيا الأمريكية لتكون واحدة ضمن أبرز ثلاث عالمات، هن "كارل دار" رئيسة بحوث السرطان، والثانية "كاثي سيلفر" أول رائدة فضاء، وكانت هي الثالثة؛ لتكون المثل الأعلى في العلوم والتقنية للفتيات الأمريكيات لتحفيزهن وتشجيعهن على الولوج إلى المجالات المختلفة في العلوم. شعارها.. لا للمستحيلتخرجت حياة من الثانوية العامة بتفوق، حيث أهّلتها درجاتها للالتحاق بكلية الطب، وهناك عشقت علوم الأدوية؛ إذ كانت تراها علومًا تخدم الإنسانية وتحميهم من المرض، ولسوء الحظ لم تجد في جامعات المملكة قسمًا يختص بتدريس هذا العلم، وأمام رغبتها الشديدة في استكمال تعليمها في هذا التخصص، استسلم الأهل عندما أبدت لهم رغبتها في السفر إلى لندن لدراسته هناك. وصلت حياة إلى لندن ولغتها الإنجليزية أو ما تحمله من خلفية علمية لا يؤهلها للقبول بأي جامعة، إلا أنها استطاعت أن تتجاوز كل العقبات بالإرادة والجدية، وقررت أن تنزع كلمة المستحيل من قاموس حياتها، فكانت تدرس يوميًّا ما بين 18 إلى 20 ساعة إلى أن تقدمت للاختبارات التي أهلتها فيما بعد للحصول على قبول غير مشروط في جميع الجامعات التي تقدمت لها، عندما قررت الالتحاق بجامعة (كينجز كوليدج). وجاءت لحياة فرصتها الذهبية وهي في العام الثاني من مشوارها مع العلم، عندما وصل عقار جديد من ألمانيا إلى جامعتها، وطلب من فريقها العلمي أن يجري عليه التجارب لمعرفة تركيبته الكيميائية، وكيفية عمله في جسم الإنسان. وقد استطاعت وفريقها تحقيق هذا الإنجاز، فكانت تلك التجربة وراء اختيارها التقنية الحيوية؛ لتكون مجال تخصصها في الدراسات العليا بجامعة كامبردج بعد أن حصلت على الشهادة الجامعية مع مرتبة الشرف. وكما تقول: "لقد أدركت بأن من ينجح في التحكم بالتقنية الحيوية ينجح في التحكم بالعالم وتسخير موارده لحياة أفضل، فالتقنية الحيوية اليوم مفتاح النهضة العلمية والاقتصادية". وفي الشهر الرابع لها في كامبردج، تمكنت من تحقيق نتائج مبهرة على جهاز من ابتكارها يتتبع آثر نوع من أنواع المبيدات الحشرية على الدماغ، وقد تقدمت ببحثها هذا إلى مؤتمر (جوردن) المنعقد في ولاية بوسطن الأمريكية، حيث تم قبول البحث بالمؤتمر، إلا أن الجامعة رفضت لعدم استعدادها تحمل التكاليف، خاصة أنها ما زالت طالبة، ولم يمر على وجودها بالجامعة سوى عدة أشهر، وكانت المفاجأة أن الجهة المنظمة أبدت استعدادها لتغطية التكاليف، وقد حظي البحث باهتمام وإعجاب بالغين من كل الحضور، فكانت أصغر طالبة ترسلها الجامعة لحضور مؤتمر علمي في الخارج. وفى عام 1999 تم اختيارها كي تنضم إلى فريق العلماء الشبان الأكثر تفوقًا في بريطانيا، في تجربة تمت بمجلس العموم البريطاني بهدف أخذ مشورة هذه المجموعة في تطوير مناهج العلوم ووضع آليات للحد من الهجرة تجاه أمريكا. وقبيل الانتهاء من الدكتوراة، وبالتحديد في عام 1999 جاءتها دعوة من مستشفى السرطان بكندا لإجراء التجارب على مجس متعدد الاستخدامات كانت قد ابتكرته وذاع صيته، ولم تكن هذه الدعوة الأولى من نوعها فيما يخص هذا الابتكار المعروف اختصارًا بـ"مارس MARS"، حيث تلقت قبل ذلك دعوة من وكالة ناسا ولمدة أسبوعين قدموا إليها بعدها عرضًا مغريًا للعمل معهم، ويمكن القول بأن هذا الجهاز هو خلاصة أبحاثها وتجاربها العلمية، حيث إن له العديد من التطبيقات في نواحي مختلفة للصناعات الدوائية، وفحوصات الجينات والحمض النووي DNA الخاصة بالأمراض الوراثية، وكذلك المشاريع البحثية لحماية البيئة وقياس الغازات السامة، ويتميز ابتكارها بدقته العالية التى وصلت إلى تحقيق نسبة نجاح في معرفة الاستعداد الجيني للإصابة بالسكري تبلغ 99.1%، بعد أن كانت لا تتجاوز 25%. عقبات على طريق حياةوعلى الرغم من مؤشرات النبوغ المبكر التى ظهرت على حياة، فقد كان هناك الكثير من العقبات التى اعترضت طريقها، فقد بدأت هذه المرحلة بصدمة تلقتها بمجرد انتسابها كأول سعودية تحصل على منحة دراسية لتحضير أطروحة الدكتوراة في مجال التقنية الحيوية، عندما استقبلها أحد أساتذتها بصرخة في وجهها طالبًا منها ضرورة الفصل بين العلم والدين، في إشارة إلى حجابها قائلاً: "فاشلة، فاشلة، فاشلة... ما لم تتخلي عن حجابك ومظهرك، وأؤكد لكِ بأنه خلال ثلاثة أشهر فقط ستذوب شخصيتك في مجتمعنا وتصبحين مثلنا، فلا بد من الفصل بين العلم والدين". ولكن خلال الأشهر الثلاثة تبدل الهجوم لاحترام كبير من جميع الزملاء، فقد أدركوا من سلوكها المتميز بأنه لا تعارض في الإسلام بين الدين والعلم، حتى إنهم كانوا يمتنعون خلال شهر رمضان عن تناول الطعام أمامها، بل ويؤجل بعضهم وجبة الغداء إلى موعد الإفطار احترامًا وتقديرًا لها. ومن هذه العقبات أيضًا ما واجهته وهي على مشارف الانتهاء من رسالة الدكتوراة، عندما جاءها خطاب من عميد الجامعة يفيد بضرورة تغيير موضوع البحث والعمل على مشروع جديد دون أن يحمل الخطاب أي مبررات، فكان عليها أن تنجز رسالة جديدة في 9 أشهر وهي المدة المتبقية على المنحة، دارت الدنيا بها عندما شعرت بأن هذا القرار كفيل بأن يعصف بكل آمالها وسألت نفسها، ما العمل؟ فلم تجد غير إجابة واحدة وهي ضرورة الاستجابة وبسرعة حتى لو تطلب الأمر منها أن تسابق الزمن. أنجزت حياة رسالتها والتي كان موضوعها "دراسات متقدمة في أدوات القياس الكهرومغناطيسية والصوتية" وقد صنّفها أستاذها بأنها خمس رسائل في رسالة واحدة؛ نظرًا لما حملته من تشعب في مجالات علمية عديدة وتخصصات مختلفة، وقد أجيزت الرسالة وهنّأها أستاذها قائلاً لها: "لقد فتحت يا حياة نافذة جديدة للعلماء لفهم العلوم". بين الروس والأمريكان
في عام 2001 تلقت حياة دعوة لزيارة البنتاجون على هامش حضورها المؤتمر القومي لمرض السرطان، وهي الزيارة التي تقول عنها إنها كشفت لها أسرار النهضة العلمية الأمريكية، حيث اطلعت على الدور الذي يقوم به العلماء هناك، وتقول حياة تعليقًا على ذلك: "في البنتاجون يتم اختيار نخبة من العلماء، ويكون لهم قسم خاص في الحكومة وميزانية ضخمة للأبحاث والدراسات، وتتجاوز الرؤية ذلك بالعمل المستمر على اكتشاف المشاكل التي يعاني منها المجتمع المحلي، ومن ثَم توجيه العلماء لدراستها في سبيل إيجاد الحلول لها أو الاتجاه مباشرة إلى تخصصهم في المجالات التي يحتاجها المجتمع". وفى المقابل لذلك، أتيح لحياة زيارة روسيا في إطار منحة بحثية مقدمة من جامعة كامبردج، تتمثل في نقل خبرتها في مجال أبحاث التقنية الحيوية لجامعة موسكو، وقامت حياة بالتواصل مع الباحثين الروس الذين لم يكن لديهم خلفية عن شخصيتها، عبر البريد الإلكتروني قبل أن تنتقل إلى موسكو، وقد جاءت المفاجأة بمجرد أن وصلت روسيا، ففي الموعد والمكان المحدد جاء لقاؤها مع العلماء الروس الذين ما إن علموا بوصولها حتى خرج عدد منهم من قاعة الاجتماع لمقابلتها؛ وإذ بعلامات الاستغراب على وجوههم، وجاء على لسان أحدهم مستنكرًا صغر السن وربما يكون هيئتها وهي ترتدي الحجاب: هل أنتِ حياة سندي؟ فأجابت بنعم... فتبادلوا النظرات، وعادوا إلى القاعة وتركوها ترقب خطواتهم! فسارت خلفهم إلى أن دخلت القاعة وخاطبتهم قائلة: لقد قطعت كل هذه المسافة بناء على طلبكم ولدي مهمة سأنجزها، فهل نبدأ؟ فاستجابوا لها، ولم يفت من الوقت إلا القليل حتى تبدلت المواقف من الاستغراب والاستنكار إلى الإعجاب والتقدير. الإيمان بالعمل التطوعي
تأمل حياة من خلال عملها ونشاطها أن تكون سفيرة لبلادها، تقول: "لا أحب أن أتأخر عن عمل الخير والترويج الإيجابي لوطني"، داعية السعوديات والسعوديين إلى المشاركة في الأعمال التطوعية، معلّقة على ذلك بأن أي عمل مهما كان صغيرًا يصنع فرقًا كبيرًا، وليس من الضروري أن يكون الشخص عالمًا أو طبيبًا أو ثريًّا ليصنع فرقًا. وفي هذا الإطار تحرص حياة على الحضور إلى بلدها كلما جاءتها الفرصة بهدف عرض تجربتها الشخصية، وهي الآن تقوم بزيارات عديدة للفتيات في مختلف مناطق المملكة لأجل تحفيزهن على النجاح والطموح من خلال استعراض مشوارها العلمي والعملي، وتعلق على هذا الأمر بقولها: "لا أؤمن بالنجاح الفردي إذا لم يكن مرتبطًا بالمجتمع، وواجبي أن أخاطب الفتيات على اختلافهن تشجيعًا لهن على العلم والتميز من خلال تجربتي الذاتية". كما أنها شاركت مع 300 سيدة في جولة للسلام حول العالم باستخدام الدراجات الهوائية، ضمن مجموعة نسوية تضم سيدات وآنسات من مختلف جنسيات العالم تطلق على نفسها "فولو ذا وومِن" والتي تعني "الحقوا بالسيدات"، والمجموعة التي يجمعها حب ركوب الدراجات يروجن للسلام، ويأملن في إنهاء العنف بمنطقة الشرق الأوسط، وقد حملن رسالة موجهة لقادة العالم عنوانها "تحركوا". ولا تقتصر اهتمامات حياة بالعلم فقط، وإنما تمتد إلى مجالات أخرى كثيرة، فهي تحب الشعر والفن وتتذوق الموسيقى، ومن الرياضة تهوى ركوب الخيل، كما أنها عاشقة للتراث، وتحرص على أن تخصص وقتًا لكل ذلك. |
ساحة النقاش