من المتفق عليه أن العناصر الرئيسية في الحضارة الإنسانية تشمل خمسة عناصر مترابطة ومتداخلة ومتلازمة في آن واحد:

أولها العنصر الاقتصادي، ويعني مستوى إنتاج الفرد وتطوره ومعدل الإنتاج القومي العام.
وثانيها العنصر العلمي التكنولوجي، ويعني ما حققه المجتمع من علم وتعليم وقدرته على التخطيط والإدارة والتنفيذ.
وثالثها العنصر البشري، ويعني صحة الفرد مادياً وروحياً أو جسمياً  ومعنوياً.
ورابعها العنصر الإيكولوجي، ويعني مقدار احتفاظ البيئة بالتوازن بين مواردها الصالحة للاستثمار وبين تلوث هذه البيئة نتيجة منجزات التكنولوجيا من عوادم، والقدرة على إعادة صياغة هذه العوادم للحياة مرة أخرى.

وأما العنصر الخامس فهو العسكري، ويعني كفاءة التدريب وكفاءة المعدات الحربية.

هذا من ناحية عناصر الحضارة الرئيسية والمتداخلة، أما من ناحية مفهوم الصحة، فيشمل صحة الفرد والمجتمع نتيجة للجهود المبذولة لرفع مستوى البيئة والخدمات الصحية والتثقيف الصحي أو التربية الصحة.

وكي تتضح لنا أهمية العلاقة بين هذه العناصر وبين صحة الإنسان، فإننا نجد أنه كثيراً ما يوصف عصرنا الحاضر بأنه عصر انتصار التكنولوجيا، دونما حاجة إلى معايير أخرى، ففي الوقت الذي  يبدو فيه أنها بلغت أوج المجد، نجد أن البشرية قد تعرضت لمأزق لم يسبق له مثيل، لأن ما تغرفه المجتمعات من الطبيعة في صورة مواد خام، وتحولها بفضل إنجازات التكنولوجيا العصرية إلى منتجات مصنعة للاستهلاك، تولد عوادم ناتجة عن الاستهلاك تلوث البيئة، وتهدد باختلال التوازن الإيكولوجي لهذه المنتجات، على نحو يتعذر إصلاحه داخل إطار حقبة من الزمن تحفظ البشرية فيه رصيدها الحضاري.

ويكفي لإعطاء فكرة عن أبعاد هذه المخاطر التي تهدد البشرية أن نشير إلى أن نحو 450 كيلو متراً مكعباً من المياه تتبدد سنوياً، لدرجة أن مناطق صناعية عديدة، خاصة في البلدان الصناعية المتطورة، تنقصها المياه النقية، ونحو نصف مليار نسمة يعانون أمراضاً بسبب نقص المياه أو تلوثها، ونحو ثلث سكان الولايات المتحدة يعيشون في مناطق يتلوث الجو فيها بسبب ما يقرب من 90 مليون طن من أكسيد الكربون وملايين الأطنان من أكاسيد النتروجين، التي تنتجها نحو 150 مليون سيارة، وبسبب أكاسيد الكبريت المنبعث من المصانع، وأن شرطي المرور في مدينة كبيرة كلندن يستنشق من الهواء الملوث ما يساوي تدخينه لنحو 120 سيجارة يومياً، وأن المباني والتحف الأثرية في معظم المدن الأوربية والأمريكية الكبرى تعرضت للتآكل خلال السنوات الأخيرة، أكثر مما تعرضت له من تلف منذ أن أنشئت، كما أن النفط والبتروكيماويات هي أبرز مولدات الطاقة الكيميائية في عصرنا تعد من أكثر منتجات الصناعة الكيماوية تلويثاً للبيئة.

وقد بلغت الحالة حداً من الخطر إلى درجة أن أساتذة علم البيئة (الإيكولوجيا) يتنبؤون بأن استمرار المعدلات الراهنة في الزيادة السكانية والتنمية الاقتصادية يهدد باستنفاد مصادر الثروة الطبيعية وبإتلاف البيئة، إلى درجة أن النصف الثاني من قرننا الحالي معرض لأن يشهد تخفيضاً جسيماً في القدرة على الإنتاج نتيجة انخفاض مستوى الكفاءة الحيوية للأفراد، وعلى نحو يهدد البشرية بهلاك لم يسبق له مثيل، حتى مع افتراض استمرار معدلات التقدم التكنولوجي دون توقف. مع العلم بأن هذا العنصر الأخير، وهو التقدم التكنولوجي، أكثر خطراً على الإنسان اليوم، لاعتماده على الأزرار التي تحرك الآلات والأجهزة والمركبات دون الحاجة إلى مجهود بدني، مما يؤثر على كفاءة الأجهزة الحيوية الداخلية، وبالتالي يؤثر على قدرتها على القيام بوظائفها على أكمل وجه، وهذا الواقع يلفت النظر إلى قضية أخرى لم تكن مطروحة من قبل، إذ لأول مرة لم يعد من الممكن النظر إلى الأرض والبحر على أنهما مصدران لتوفير المواد الخام القابلة للتصنيع أو الاستهلاك دونما قيد، وهذا من شأنه أن يحدث تغييراً جذرياً في كل آفاق التقدم البشري مستقبلاً.

التنمية وارتباطها بالتوازن الإيكولوجي:

غير أن تطور المجتمعات البشرية، الذي كان في الماضي رهناً بتطورها الاقتصادي في الأساس، بمعنى أن عمليات الإنتاج وأساليبه كانت تعتمد على علاقة الإنسان بالطبيعة بوصفها مخزناً بلا قاع، يمكن الاغتراف منها بلا حدود، أصبح الآن حجم ما يمكن استثماره منها ينبغي إخضاعه للحساب، ولم يعد من الجائز قصر تنمية المجتمعات على تنميتها الاقتصادية دون الالتفات إلى ما تسببه من اختلال في التوازن الإيكولوجي، ودون تقدير لآثار  منجزات التكنولوجيا العصرية ومضاعفاتها، لا على البيئة فحسب، بل أيضاً على صحة الإنسان وكفاءته الحيوية، وصحة المملكة النباتية على حد سواء، ودون تخطيط لوسائل تستوعب العوادم، وتضمن إعادة توظيفها في دائرة الإنتاج بدلاً من أن تكون سبباً في اختناقات تزداد تعثراً في حلها على مدى الزمن. ولهذا، لم يعد العنصر الاقتصادي ولا معدلات النمو في الإنتاج القومي العام هي المؤشرات الكافية لقياس مقدار تقدم مجتمع ما، لأن هذه المؤشرات، وهي مؤشرات ذات صلة بما يبلغه المجتمع من كفاءة أداء وتقدم تكنولوجي، لو أخذت وحدها أمكن أن تعطي صورة مجتمع كالمجتمع الياباني مثلاً، بأنه قد بلغ أوج التقدم، في الوقت الذي يتعرض فيه لآثار التلوث إلى حد يقتضي من المخططين في اليابان التفكير الجاد في إعادة النظر في كل مقومات نمط بلادهم الإنتاجي.
وبناء على ذلك، يمكن القول إنه لمواكبة التحول التاريخي، الذي يمثله تعاظم عنصر الإيكولوجيا في ضمان استمرار التقدم التكنولوجي، يجب الاهتمام بقيمة العنصر البشري كأساس للحياة والتطور الحضاري، كما يجب التخطيط النموذجي للتطور ليشمل العلاقة الحتمية بين العناصر الخمسة الأساسية المتداخلة للحضارة، وبطبيعة الحال سيتعرض هذا النموذج لمشاكل معقدة، لأنه سيتطلب تخطيطاً طويل الأمد، ويعرض قيمة العمل الاجتماعي لتقديرات مختلفة حسب مقدار تطور كل مجتمع، ولأن هذه القيمة تتأثر بتقدير كل عنصر من هذه العناصر، التي لم يعد من الممكن إغفالها، وأصبحت تفرض نفسها بإلحاح في عصرنا الحاضر، خصوصاً من ناحية إعداد الأجيال القادمة أثناء مرحلة النمو والتكوين، أي في العشرين سنة الأولى من حياتها،وبنائها بناء صحياً ومعنوياً صلباً، يضمن القدرة على بناء الأوطان، والكفاءة في الإنتاج للسعادة في الحياة، وإلا فما الفائدة من تنمية التكنولوجيا القادرة على غزو الفضاء وتدمير الكفاءة الحيوية للإنسان، الذي هو محور الحضارة وحجر الأساس في التطوير على وجه المعمورة.

المصدر: جريدة النور/ وهدان وهدان، نقلت بتصرف
yomgedid

بوابة "يوم جديد"

  • Currently 199/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
67 تصويتات / 3059 مشاهدة
نشرت فى 12 أكتوبر 2010 بواسطة yomgedid

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

معبد الأقصر